الحكمة من نزول القرآن الكريم
من تقسيم القرآن إلى مكي ومدني، يتبين أنه نزل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مفرقًا. ولنزوله على هذا الوجه حكم كثيرة منها:
1- تثبيت قلب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:32-33].
2- أن يسهل على الناس حفظه وفهمه والعمل به، حيث يقرأ عليهم شيئًا فشيئًا، لقوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء:106]
3- تنشيط الهمم لقبول ما نزل من القرآن وتنفيذه، حيث يتشوق الناس بلهف وشوق إلى نزول الآية، لا سيما عند اشتداد الحاجة إليها كما في آيات الإفك واللعان.
4- التدرج في التشريع حتى يصل إلى درجة الكمال، كما في آيات الخمر الذي نشأ الناس عليه، ألفوه، وكان من الصعب عليهم أن يجابهوا بالمنع منه منعا باتا، فنزل في شأنه أولا قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: من الآية 219] فكان في هذه الآية تهيئة للنفوس لقبول تحريمه حيث إن العقل يقتضي أن لا يمارس شيئا إثمه أكبر من نفعه.
ثم نزل ثانيا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: من الآية 43] فكان في هذه الآية تمرين على تركه في بعض الأوقات وهي أوقات الصلوات، ثم نزل ثالثا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92] فكان في هذه الآيات المنع من الخمر منها باتا في جميع الأوقات، بعد أن هيئت النفوس، ثم مرنت على المنع منه في بعض الأوقات.
ترتيب القرآن
ترتيب القرآن: تلاوته تاليا بعضه بعضا حسبما هو مكتوب في المصاحف ومحفوظ في الصدور.
وهو ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ترتيب الكلمات بحيث تكون كل كلمة في موضعها من الآية، وهذا ثابت بالنص والإجماع، ولا نعلم مخالفا في وجوبه وتحريم مخالفته، فلا يجوز أن يقرأ: الله الحمد رب العالمين بدلا من {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]
النوع الثاني: ترتيب الآيات بحيث تكون كل آية في موضعها من السورة، وهذا ثابت بالنص والإجماع، وهو واجب على القول الراجح، وتحرم مخالفته ولا يجوز أن يقرأ: مالك يوم الدين الرحمن الرحيم بدلا من: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ففي صحيح البخاري [أخرجه البخاري كتاب التفسير باب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ...} الآية حديث رقم (4530). ] أن عبد الله بن الزبير قال لعثمان بن عفان ـ رضي الله عنهم ـ في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: من الآية 240] قد نسخها الآية الأخرى يعني قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [أخرجه البخاري كتاب التفسير باب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا...} الآية حديث رقم (4530)]. [البقرة: من الآية 234] وهذه قبلها في التلاوة قال: فلم تكتبها؟ فقال عثمان رضي الله عنه: يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه.
وروي الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والتزمذي 0من حديث عثمان رضي الله عنه: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء، دعا بعض من كان يكتب،فيقول، ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا [أحمد (399) وأبو داوود ( 786)، والنسائي في السنن الكبرى (8007) والترمزي (3086)
] النوع الثالث: ترتيب السور بحيث تكون كل سورة في موضعها من المصحف، وهذا ثابت بالاجتهاد فلا يكون واجبا وفي "صحيح المسلم" [أخرجه مسلم كتاب الصلاة المسافرين باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل حديث رقم (772).
] عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: أنه صلى الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات ليلة، فقرأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، وروي البخاري [أخرجه البخاري كتاب الآذان باب الجمع بين السورتين في الركعة..
] تعليقًا عن الأحنف: أنه قرأ في الأولى بالكهف، وفي الثانية بيوسف أ ويوسف أو يونس، وذكر أن صلى مع عمر بن الخطاب الصبح بهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: " تجور قراءة هذه قبل هذه، وكذا في الكتابة. ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في كتابتها، لكن لما اتفقوا على المصحف في زمن عثمان رضي الله عنه، صار هذا مما سنة ا\لخلفاء الراشدون، وقد دل الحديث على أن لهم سنة يجب أتباعها " اهـ.